حقيقية المتشدقين بخطاب الدولة
د. ولي علي
(الدولة) مفردة يرددها الجميع في عراق ما بعد
نيسان ٢٠٠٣ وكأنها تعويذة نجاة من كل مس وخطر، ويتقدم المسبحون بحمد الدولة (زوراً وبهتاناً) الكثير من القوى والشخصيات المنخرطة في المشهد السياسي، إذ ينطبق عليهم المثل المصري وكأنه فصال عليهم (أسمع كلامك أصدقك.. أشوف فعلك أتعجب)، فدعاة الدولة لطالما كانوا سبباً في اضعاف القانون وهيبته، عبر الرغبة الجامحة في اختراقه والاقلال من شأنه، والتعدي على موسسات تنفيذه، وكأن لسان حالهم بقول: ( نريد تحكيم القانون بشرط أن نكون فوقه)، فلطالما تعدت سيارتهم المظللة وهي تتجاوز نقاط التفتيش وتتعدى عليها، ولطالما تصرفت قواهم في مسار ومجريات قضايا معروضة امام مراكز الشرطة والمحاكم مستخدمين نفوذهم لاضعاف الدولة لصالح استقوائهم، وهؤلاء أنفسهم السبب في اضعاف القوات المسلحة والتقليل من شأنها عبر عدة مسارات، فأصرارهم على ان يكون أعضائهم ومنسوبيهم ممن لا علاقة لهم بالعسكرية ومهنتها، قادة وآمرين يحملون رتباً عسكرية بمستويات رفيعة دون ان يكونوا قد خدموا في السلك يوماً واحداً، ولا يقف سلوكهم عند هذا الحد، بل تنامى تدخلهم المضعف للدولة وقوتها الصلبة الاهم من خلال اختراقهم المنظم للمنظومة العسكرية، واتهامهم المتكرر للجيش بالضعف والفساد وعدم القدرة على اداء مهامه، والتدخل في شؤون تسليحه ومسرح نشاطه، واخيراً وليس آخراً رعاية السلاح المنفلت، وتأسيس المليشيات والجماعات المسلحة والتشدق بأنها قوى بديلة عن القوات المسلحة، واستعمال السلاح في خرق القانون وابتزاز الشعب.
لا تقف قائمة الافعال المقوضة للدولة عند هذا الحد، بل يمكن القول دون مبالغة، ان معظم سلوك وافعال هذه الجهات ونشاطاتها يستهدف بالدرجة الاساس تقويض الدولة وبنيتها بشكل صريح ومباشر، فمن الاستيلاء عنوة على مباني واملاك الدولة، واتخاذها مقرات ومكاتب لاحزابهم وجهاتهم، وتسخير امكانات الدولة في الوزارات والمؤسسات التي يسيطرون عليها لمنافعهم الحزبية والشخصية، وتحويلها الى ضيعة مغتنمة لاتباعهم بعد أن يرسو عليهم مزاد المحاصصة، وفي ذات الوقت يتسابقون على شاشات التلفاز لإلقاء الخطب الحماسية، والتباكي الكاذب تظلماً لما يجري على الدولة ومؤسساتها.
لقد خرب المتشدقون بخطاب الدولة والمتباكون عليها زوراً وكذباً، كل شيء في الدولة ومؤسساتها واقتصادها بلا رحمة ولا ضمير ومع ذلك يقدمون أنفسهم للجمهور كحماة للدستور، وابطال وطنيين يسهرون على حماية الوطن والمواطن.
يردد المسبحون بحمد الدولة مصطلحاً آخراً لاستكمال تعويذتهم المعهودة، وهو مصطلح (السيادة)، نافخين فيه حتى تتورم اوداجهم من كثرة دجل الخطاب المدلس على حقيقة توجهاتهم، فهؤلاء المتباكون على السيادة والمدعون الدفاع عنها، يجهزون عليها بكل ما لديهم من قوة، فعلاقاتهم وارتباطاتهم الخارجية على قدم وساق مصطفة مع دول وجهات ذات اغراض واضحة في استهداف البلاد واضعاف سيادتها، ولطالما كانوا حصان طروادة الذي عبرت من خلاله التدخلات الخارجية، وكانت ولا تزال علاقاتهم المشبوهة القائمة على اساس التبعية والخضوع للتوجهات الاجنبية مقوضة لسيادة الدولة عبر تمكين الغرباء من مؤسساتها وقرارتها المصيرية من خلال بوابتهم السخية في محبة الغرباء والانصياع لأوامرهم.
في صورة اخرى من مسلسل اضعاف الدولة وسيادتها، يعيين هؤلاء انفسهم بديلاً عن مؤسسات الدولة المختصة، ويتجاوزون حدود الفضاء المشروع لنشاطهم السياسي، إذ يتسابقون على الزيارات واللقاءات مع الدول سواء من خلال سفاراتها او عبر زيارتها بشكل مباشر للحديث والتباحث في موضوعات تنفيذية الصرفة تمثل إختصاصاً حصرياً للحكومة ومؤسساتها، فما هي علاقة حزب او جهة سياسية للتفاهم مع دولة ما حول اتفاقيات تجارية او امنية، او التنسبق بشأن اي نشاطات تبادلي بين الدولتين، وماذا بقي للحكومة ولوزارة الخارجية لتقوم به اذا كانت الاحزاب والجهات هي التي تتصدى لهذه الملفات؟!
وفي ذات الوقت الذي تندلق به ألسنتهم بالحديث عن حصانة الدولة وسيادتها، يتم تقديم هذه النشاطات واللقاءات بوصفها افعال جبارة وخطوات استثنائية تستهدف دعم البلاد وتحقق الاستقرار مستغلين انصياع جمهورهم المؤدلج، والذي اعار عقله وضميره للولاء الاعمى.
على الرغم من سعة الفضاء الذي يتيحه النظام الديمقراطي في الدول المحترمة إلا انه في ذات الوقت يرسم لكل قوة من قوى الدولة مسارها المناسب، فمن غير المسموح لغير الحكومة ومؤسساتها التنفيذية ان يقوم بالاعمال المتعلقة بالنشاط الحكومي، وخصوصاً فيما يتعلق بملف العلاقات الخارجية، كما ان الحكومة المفوضة هي الاقدر على تحديد مصالح الدولة العليا، واذا كان من اعتراض على سلوكها، فهناك طرق مشروعة لمساءلتها ومحاسبتها، وليس القيام بدور بديل عنها، فيمكن لأي قوة سياسية ان تديم علاقاتها ونشاطاتها مع احزاب وفعاليات خارجية شريطة ان يكون مسار تلك العلاقات والنشاطات متوافق مع المصالح العليا للدولة ومحتر
م لسيادتها، وحتى الاختلاف في وجهة النظر او الموقف تجاه اي ملف تقوم عليه الحكومة لا بد ان يمر عبر القنوات الدستورية والقانونية، وليس عبر الفرض وكسر الارادة وانتهاك سيادة الدولة.
ان المتشدقين بمشروع الدولة يثبتون عملياً في كل يوم هم الاخطر على الدولة ومشروعها، خصوصاً في ظل استمرارهم بالتدليس والخداع من خلال اعلامهم المؤدلج والمأجور الذي يتشدق ليل نهار بالدفاع عن الدولة وسيادته رغم الاصرار والاستمرار بما لا عد له من الفعاليات الواضحة في تقويضها للدولة والاجهاز على مؤسساتها، وما لم يتوقف هؤلاء عن سلوكهم الهدام لكيان الدولة، فلن تقوم للبلد قائمة.