الموازنات المهدورة.. تقديرات تصل لـ450 مليار دولار وأموال “أغنياء العراق” تعادل 9 دول مجتمعة
يضرب الفساد بجذوره العميقة في صلب الدولة العراقية، خاصة بعد الإفادة من “هدر” موازنات العراق والتي وصلت حسب تصريحات رسمية الى 250 مليار دولار خلال 17 عاماً، وفيما يكشف خبراء اقتصاد أن الأرقام “مهولة” وتصل الى الضعف تقريباً وتكفي لمنح كل عراقي 10 دولار، يكشف معنيون عدد “المليارديرات” في العراق الذين تعادل نسبتهم 9 دول مجتمعة، فيما تكشف هيئة النزاهة عن نسبة الأموال المسترجعة والتي منعت هدرها وعقبات استرجاع الأموال المهربة الى الخارج.
وينادي الكثير من العراقيين بترشيد الإنفاق الحكومي والتركيز على تعظيم الواردات،وسط محاولات حكومية للقضاء على الفقر، من خلال “الرعاية الاجتماعية” أو “القروض الميسرة”.
وكان مجلس النواب، صوت في 3 حزيران 2024، على جداول قانون الموازنة العامة الاتحادية رقم 2024 المعدلة بما يقارب من 211.9 تريليون دينار (الجارية والإستثمارية)، وهي تزيد عن النفقات المقدّرة لسنة 2023 بنسبة 7%، إذ بلغت التخصيصات الجارية 157 تريليون دينار (74.1%)، بينما بلغت التخصيصات الاستثمارية 55 تريليون دينار (25.9%).
أموال تبني دول
وبحسب تصريحات سابقة لوزير المالية العراقي السابق علي علاوي، فإن “من بين أكثر من ترليون دولار مثلت مجموع موازنات العراق خلال 17 عاماً (منذ عام 2003 حتى عام 2020) ضاع أكثر من 250 مليارا منها بسبب (الفساد الإداري)”، مبينا أن”صرف هذه الأموال كان (استفادة مالية) لبعض الجهات مما أدى إلى تراجع قدرات الدولة وأن هذه الأموال كافية لبناء عدة دول”.
لكن بحسب خبراء اقتصاديين يخالفون علاوي الرأي، فإن “الأموال الضائعة من الموازنات العراقية هي أكبر من المبلغ الذي تحدث عنه وزير المالية السابق” مبينين أن “مجموع موازنات العراق للأعوام التي تلت 2003 هو أكثر من 1.1 ترليون دولار والمبلغ المهدور الذي تحدث عنه وزير المالية هو فقط للأموال التي ضاعت بدون قيود صرف رسمية”.
ويرجح الخبراء “مقدار الأموال “الضائعة” يقدر بـ”400 -450 مليار دولار أميركي”، أي نحو 40 بالمئة من مجموع موازنات العراق”، وهو ما عدوه كافياًلـ”بناء 400 ألف مدرسة نموذجية بقيمة مليون دولار للمدرسة الواحدة، أو 20 ألف مستشفى نموذجي قيمة الواحدة 20 مليون دولار، وشراء 28 ألف طائرة F-16 سعر الواحدة منها نحو 16 مليون دولار، أو تكفي لمنح كل فرد عراقي مبلغ 10 آلاف دولار”.
أين ذهبت الأموال
وبحسب الخبراء فإن “العقود الوهمية والعقود المبالغ بأسعارها، والموظفين غير الموجودين في الحقيقة، والمصروفات التشغيلية والمشاريع الاستثمارية وتحويل العقود هي أوجه الهدر الأكبر في الأموال العراقية”، فيما كان “الهدر الأكبر هو في “سوء الإدارة والتخطيط وتسييس الاقتصاد”.
ويضيف الخبراء أن “العراق امتلك نحو 850 ألف موظف قبل 2003 ارتفعت أعدادهم إلى أكثر من 4.5 مليون موظف في دوائر تحول أغلبها إلى (مراكز استنزاف للوقت والمال)”، مبينين أن “ما تم صرفه على الخدمات مثل التعليم والصحة والدفاع لا يتجاوز 30 بالمئة من موازنات العراق، فيما يتوزع الباقي بين جيوب الفاسدين وثقوب سوداء للهدر وسوء الإدارة والاعتماد على الاستهلاك ودعم الاستيراد على حساب التصنيع المحلي”.
وبحسب رئيس هيئة النزاهة القاضي حيدر حنون في مقابلة مع قناة آر تي الروسية في 23 شباط 2024، فإن “التطور الذي حصل في العراق وضعنا في المرتبة 154 وليس 157 في مؤشر الفساد العالمي (من أصل 180 دولة)أي ثلاث مراتب أقل عن المؤشرات السابقة”، مبينا أن”أموالنا المنهوبة كبيرة وتحتضنها وتضعها بعض الدول في مصارفها الكبرى وأدخلتها حتى في اقتصاداتها والعقبة الرئيسية تكمن في كشف حجمها والكمية التي هُربت وأسماء أصحاب الحسابات المودعة في البنوك الأجنبية”.
ويبين “نسعى للحصول على أكبر مساحة للوصول إلى المبالغ التي سرقت لكنها في حقيقة الواقع الذي لا بد أن نقر به أن المبالغ كبيرة ومنذ 19 سنة ونيف سرقت من العراق أموال كثيرة دخلت في حسابات وودائع في مصارف عملاقة واقتصادات كبيرة وبعض الأموال ذهبت إلى الإرهاب”.
لكن تقرير هيئة النزاهة السنوي لعام 2023، يكشف أن “مجموع الأموال المستردة منذ تأسيسها بلغ أكثر من 391 مليار دينار عراقي، فضلا عن (500 ألف) دولار أمريكي، فيما بلغت قيمة الأموال التي مُنع هدرها أكثر من 82 مليار دينار عراقي وخمسة ملايين دولار امريكي، في حين كانت أموال الفساد المهربة خارج العراق، بحسب تقرير الهيئة، أكثر من 11 مليون دولار أمريكي بالإضافة إلى (10) عقارات في قضية تحقيقية واحدة.
بالأرقام..أثرياء العراق
وفي مؤشر جديد على الفساد، يلفت مدير المركز الفرنسي للدراسات حول العراق عادل باخوان، في 12 أيار 2024، من خلال إحصائية تهتم بالتفاوت الاقتصادي في العراق، إلى أن البلد يضم 36 مليارديرا تبلغ ثروة كل منهم أكثر من مليار دولار، فضلا عن 16 ألف مليونير، ثروة كل منهم أكثر من مليون دولار”.
ويشدد باخوان على أن “العراق يضم نسبة كبيرة من الشباب، إلا أنهم يواجهون تحديات في تحقيق مستقبل مستقر”. مضيفاً أن “نسبة 68% من العراقيين أعمارهم تحت سن الـ(30)، وتصل نسبة البطالة ضمن هذه الفئة إلى 40%. وتُعزى هذه التحديات بشكل كبير إلى قضايا تغير المناخ”.
وهو نفس التصريح الذي أدلى به الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي مبينا أن “عدد المليارديرات يفوق الموجود في 9 دول وهي: الكويت ولبنان والإمارات ونيجيريا وهنغاريا ورومانيا وهولندا والبرتغال والدنمارك، وهذه الفئة فاحشة الثراء قليلة العدد مقارنة بمجموع الشعب العراقي ظهرت عبر تجارات غير مشروعة مثل تجارة السلاح والمخدرات والدولار والسكراب والكاز وغيرها ولذلك ظهرت لدينا هذه الفئة”.
كما يكشف رئيس مؤسسة كوردستان لمراقبة حقوق الإنسان هوشيار مالو، في 17 آذار 2024، أن “نسب معدلات الفقر تزداد في العراق باضطراد، مع تدخل الدولة والحكومة في السوق”، مبينا إن “العراق لا يملك أي برنامجٍ اقتصادي، لمواجهة معدلات الفقر المرتفعة في البلاد”.
ويضيف أنه “على الرغم من أن العراق لديه موازنة ضخمة، إلا أن البلاد لا زالت تعيش في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي”، مشيراً الى أن “العقلية الحاكمة راهناً في البلاد، لا تقبل فكرة السوق الحرة، والدولة والحكومة العراقية تتدخلان في السوق، لذا فإن نسبة معدلات الفقر تزداد يوماً بعد آخر”.
العراق ودرجات الفقر
وفي هذا الإطار، يكشف المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق في 9 تموز الجاري، عن وجود أكثر من (10 ملايين) عراقي يعيشون تحت خط الفقر، لافتاً إلى “خلو” موازنة العام 2024 من دعم هذه الفئات.
وفي العراق، ساهمت الأزمة الاقتصادية المستمرة وارتفاع سعر صرف الدولار وانعكاسه على أسعار السلع والمواد الأساسية، في ارتفاع مستوى خط الفقر، إذ أكدت إحصاءات تصدر محافظات الجنوب معدلات الفقر، وفي مقدمتها محافظة المثنى بنسبة 52 بالمائة، وتليها محافظة القادسية وميسان وذي قار بنسبة 48 بالمئة، فيما بلغت نسبة الفقر في العاصمة بغداد 13 بالمائة، وفي محافظة نينوى 34.5 بالمائة، في حين تصل نسبة الفقر في محافظات الوسط إلى 18 بالمائة.
ويقول نائب رئيس المركز حازم الرديني في بيان، إن “وزارة العمل تقوم عبر دائرة الرعاية الاجتماعية بتوزيع رواتب شهرية لـ2 مليون أسرة فقط، وهناك اكثر من مليون أسرة تستحق راتب الرعاية لم يحسب لها حساب بموازنة 2024 التي جاءت خالية من أي تخصيصات جديدة لشبكة الحماية، إضافة إلى أكثر من 1.650.000 ألف عاطل مسجل بدائرة العمل”.
وفي وقتٍ سابق، كشفت منظمة برنامج الأغذية العالمي WFP الدولية التابعة للأمم المتحدة في تقرير موسع لها عن أنشطة دعم المستوى المعيشي والتأقلم مع تبعات التغير المناخي في العراق وبرامج التمكين لمجتمعات متضررة في سبع محافظات عراقية أن معدل البطالة بين شباب العراق بلغت 35%، في حين ازدادت معدلات الفقر منذ العام 2018، حيث أن 29.6% من العراقيين هم دون خط الفقر بواقع 12.27 مليون شخص من تعداد نفوس يبلغ 41.2 مليون يُشكل الشباب نسبة 70% منهم.
الجدير بالذكر أن وزارة التخطيط قد أعلنت في عام 2023 عن وصول نسبة الفقر في البلاد إلى 25 في المئة، مؤكدة في الوقت نفسه إعدادها استراتيجية لدعم الفئات الفقيرة والمهمشة وتحسين سبل الحياة في مختلف المجالات من صحة وسكن وتعليم وتحسين الدخل.
إجراءات حكومية
وفي (21 تموز 2023)، أكد وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي، أن “الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة رفعت مستوى العراق 20 درجة في تسلسل درجات الفقر الدولية، وفق منظمة الأمم المتحدة”، مبينا أن “من خلال هذه الخطوات ارتفع العراق 20 درجة من حيث درجات الفقر حسب آخر تقرير للأمم المتحدة، حيث كان العراق بالمرتبة 86 ووصل الآن إلى 66، وسنستمر بعملنا حتى يصل العراق إلى مراحل متقدمة”.
وتتراوح نسبة الفقر في العراق بين 22-25%، وتتصدر محافظة المثنى (جنوب غرب) المحافظات الأشد فقرًا بنسبة 52%، تليها محافظتا الديوانية وذي قار جنوبًا بنسبة 49%، بحسب إحصائية لوزارة التخطيط.
ويرى مراقبون ضرورة دعم المشاريع الصغيرة من خلال تقديم القروض للمواطنين من ذوي الدخل المحدود والفقراء، بما يُشكل نقلة مهمة في آليات مكافحة الفقر، عبر توفير فرص الاعتماد على الذات وزيادة الإنتاج لدى المواطنين، ممن يعانون من تدني مداخيلهم ومن هم تحت مستوى خط الفقر.
لكن المطلوب وفق خبراء، هو وضع سياسات تنموية واستثمارية شاملة تعمل على التوظيف الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية العراقية، وبما يسهم في تقليص معدلات الفقر المرتفعة بشكل كبير، حيث لا يعقل وفقهم أن يعاني ملايين العراقيين من الفقر، في بلد يسبح على بحار من النفط والغاز والمعادن ومختلف الثروات الطبيعية.
نموذج الموازنات الحالي
ويقول الخبير الاقتصادي والمالي مصطفى احمد حنتوش في حديث لوكالة شفق نيوز إن ” نموذج الموازنات المالية بعد عام 2003 هو نموذج يعتمد على مركزية الدولة، عبر الزيادات في رواتب الموظفين وإقامة مشاريع استثمارية وأخرى متنوعة، وهذا النموذج كان المفترض به ان ينشئ بنية تحتية للعراق ويتجاوز هذا الأمر عبر اكتمال جميع مقوماتها من كهرباء وخدمات أخرى منذ عام 2012 وينتقل الى موضوع العمل
ويضيف الخبير الاقتصادي أن “للأسف موازنات العراق تصرف على المشاريع ذاتها، فهناك مشاريع لا زلنا نعمل بها منذ عام 2006، وذلك بسبب التلكؤ والاندثار وعمليات التوقف بهذه المشاريع”.
ويوضح حنتوش أن “هناك حاجة لنموذج جديد من الموازنات يقسمها الى 3 أقسام، الأولى: نموذج دولة وبرامج خاصة بالحكومة وتكون محددة ولا تضم آلاف المشاريع التي لا يمكن ان تكتمل، والقسم الثاني يحدد للقطاع الخاص مثل إنشاء المدن الصناعية وطريق التنمية، والقسم الثالث موازنة للقروض وذلك لتطوير حالة العمل”، مبينا انني “لست مع موازنة وزارة التخطيط التي تضم آلاف المشاريع ولا تكتمل لكثرتها”.