طلبة العراق وتطلعات ذويهم.. إما الطب أو الهندسة
علي غني
لم يساعد (رسل) معدلها في دخول كلية الطب، لتحقيق رغبة عائلتها، بعد أن حصلت في الامتحانات الوزارية على معدل (82) درجة. لكن رغبة الأهل في التباهي جعلتهم يدفعون بها إلى كلية طب أهلية. يتعرض الطلبة إلى ضغوط كبيرة من الأهل للحصول على معدلات تضمن دخولهم كلية مرموقة، ما يدفعهم لبذل أقصى جهودهم إلى حد الإرهاق المصحوب بالخوف الشديد من الفشل.
ولعل حادثة وفاة إحدى الطالبات في البصرة العام الفائت من شدة خوف الامتحان، ثم وفاة أمها التي لم تتحمل الصدمة، دليلان على حالة الرعب التي يعيشها الطلبة وعائلاتهم قبيل الامتحانات الوزارية، يقودني أن أوجه رسالة إلى عوائلنا (اتركوا الأبناء يحددون اختيارهم بالرغبة، وابعدوا عنهم الخوف، فإنه قاتل للروح المعنوية، فمتى نتخلص من (لو طب، لو هندسة، لو أنت فاشل).
التوازن الاستثماري
“تعد البيئة التربوية من أعقد وأهم البيئات في كل دول العالم ومجتمعاتها”، والكلام للكاتب والفنان والتربوي مهند الشاوي، ويكمل “وإذا أردنا أن نحقق التوازن الاستثماري البشري الحقيقي، فيجب أن نتجه نحو التعليم، وهذه مسلمة أثبتت أهميتها في كثير من دول العالم منها كمثال لا للحصر سنغافورة وماليزيا واليابان وألمانيا وعربيا تونس وقطر وغيرها، في الوقت الذي كان العراق ولغاية بداية التسعينيات السباق تربويا في تحقيق نتائج تعد ذات أهمية دولية من حيث المناهج، وأساليب التدريس وطرائقه والتحصيل العلمي العالي”.
وبين الأستاذ (الشاوي): أن هناك إشكالا بات يهدد المجتمع تربويا هي نظرة العائلة لأولادها، ولما يطمحوا إليه من ناحية تعزيز الفكر النفعي أولا من خلال الدراسة! وأقصد هنا في تحفيز الأبناء على التفوق العلمي ليس لأجل التفوق البحت، بل لأجل ضمان مستقبل (تعتقده العائلة) أبنائهم لتحصيل معدلات عالية من أجل دخول كليات الطب، وطب الأسنان والصيدلة أولا، في حين تأتي كليات الهندسة والعلوم بالدرجة الثانية، في الوقت، الذي لا قيمة للحديث عن الكليات الإنسانية التربوية، متناسين أن هذه الكليات هي من خرجت مدرسين لتهيئة الطلبة للكليات العليا.
وتابع (الشاوي): هذا لم يأت من فراغ، فبسبب فقدان العدالة الاجتماعية في تحقيق التوازن في الحصول على الوظائف لخريجي الكليات من غير الطب، كون خريج الطب وما يوازيها تكون فرصته سانحة (جاهزة) في الحصول على تعيين، فضلا عن إمكانية فتح عيادة للحصول على الملايين، وتكوين نفسه خلال بضع سنين، مما يدفع العائلات إلى الضغط على الأبناء بجميع الوسائل المادية والنفسية، لأجل الحصول على معدلات عالية تسمح لهم بالدخول إلى تلك الكليات من دون أن يعلموا أن هذا الضغط، قد يولد انفجارا نفسيا شديدا عند الطالب قد يشكل عنده لاحقا عقد نفسية مرضية، فهناك العديد من الطلبة لديهم ميولا إنسانية وأدبية كاللغات والفنون الجميلة والقانون، فلماذا نحرمهم فرصة تحقيق ذواتهم وبالتالي يتعكر صفو النفس والأسرة معا.
أرى أن هذه الإشكالية منهجية (والكلام للشاوي)، إذ يجب معالجة هذه الظاهرة بدءا من المراحل الابتدائية، وتعزيز حرية الفرد في الاختيار والابتعاد عن رغبات الأسر، باتجاه رغبة الطالب نفسه. مع وضع خطط طموحة لاحترام جمع التخصصات وشمولها بالاحترام ضمن الموازنات العامة.
وعزا الدكتور مجيد حميد من كلية علوم الهندسة الزراعية/ جامعة بغداد/ إلى المكانة الاجتماعية التي تمتعها بها مهنة الطب والتباهي أمام المجتمع بأبنائهم، وكذلك لمردودها الاقتصادي، فضلا عن تأمين المستقبل المعيشي لأبنائهم، ولا أخفي -عليك- أن بعض الأسر لديها إمكانيات مادية يمكنها تأمين القبول في الكليات الطبية من دون النظر إلى رغبة أبنائها.
بينما يرى علي الياسري، احد المهتمين في اختيارات الطلبة في الجامعات، بأنه طموح كل عائلة بأن يكون ابنها أو بنتها ضمن هذين الدراستين الطب او الهندسة، كونهما يوفران فرص عمل هائلة بعد التخرج ، إلى جانب المنزلة الاجتماعية، ويعدان من العناوين للفخر والتميز في المجتمع.
الربح المادي
عدت الدكتورة رغد شاكر جاسم، مسؤولة وحدة الارشاد التفسي والتوجيه التربوي في كلية الصيدلة/ الجامعة المستنصرية، أن الظاهرة ليس جديدة، بل مضى عليها منذ عقود من الزمن، يكمن التركيز على هذه المهن دون غيرها على أنها أهم المهن، ويصاحب هذا الضغوط التي تقع على عاتق الأبناء من قبل ذويهم لكي يزاولوا هذه المهن، وذلك لعدة تفسيرات نفسية، منها الرغبة في الاحترام والمكانة الاجتماعية والتأثير الأسري والاجتماعي في بعض الثقافات. واضافت: قد يقوم بعض الأفراد باختيار هذه المهن تلبية لتوقعات الأسرة والمجتمع، فضلا عن توفر فرص الربح المادي غالبًا ما تؤمن هذه المهن مصادر للدخل الجيد، وربما قد يكون هذا أحد الحوافز الرئيسة لاختيار هذه المهن لدى البعض، وأخيرا الرغبة في المساعدة والخدمة بعض الأفراد قد يميلون نحو مهن الطب والهندسة بدافع الرغبة في المساهمة في تقديم الخدمات المفيدة للمجتمع.
واختتمت (الدكتورة رغد كلامها): في نهاية الامر ان اختيار مهنة الطبيب أو المهندس قد يعكس مجموعة من الدوافع النفسية المختلفة تتفاوت من فرد لآخر، وتفهم هذه الدوافع أمر مهم في توجيه الأفراد نحو اختيار المهن المناسبة لهم وفقا، لميولهم واتجاهاتهم وقدراتهم، وأن جميع المهن هي مهمة ومكملة لبعضها البعض في خدمة المجتمع.
ضمان التعيين
وأيدتها زميلتها الاستاذة الدكتورة صبا حامد حسين، التدريسية في كلية التربية ابن رشد للعلوم الإنسانية، اذ تقول: إن أغلب الاهالي يختارون لابنائهم المجموعة الطبية لضمان التعيين والوظيفة بالمستقبل، كذلك لرغبتهم في الحصول على مكانه اجتماعية في المجتمع، واغلب الأسر قامت بإرسال أبنائها لاكمال دراستهم خارج العراق، وتحمل الأجور المادية الباهضة والحصول على الشهادة في أحد تخصصات المجموعة الطبية، نتيجة البطالة في البلد وصعوبة الحصول على وظيفة.
الحالة النفسيَّة
وقد يكون جواب الدكتور محمد جواد الموسوي، المدير العام السابق لاعداد والتدريب في وزارة التربية، فيه شمولية كونه قريبا من الواقع التربوي، فليس كل الأسر العراقية ترغب أن يكون أبناؤهم مهندسين أو أطباء، وانما هذه حالة عامة في بلدان الشرق الأوسط من جهة فهي الثقافة الشرقية إن صح القول.
وتابع (الموسوي): هناك الكثير من العائلات ممن تتمتع بمستوى ثقافي ووعي عالٍ تُنمّي قدرة الطفل بحسب رغبته، دون أن تتدخل، اعتقادا منهم أن لهذا الطفل ميولا ورغبات بعيدة عن الطب والهندسة، وتراعي حالته النفسية إلى جانب أن ضمان حصول الطالب على الكليات الطبية والهندسية، يتطلب بطبيعة الحال ساعات دراسية يومية لا تقل عن 10 ساعات، وهذه المطاولة لا يستطيع أي طالب أن يتحملها، لذا يجب مراعاة قدرة الطالب على الصبر والجدية والمطاولة واخذها بنظر الاعتبار.
تخصصات أخرى
أخيرا أقول (وهذه نصيحة مني)، ليس من المعقول ان يكون جميع الطلبة تحصر قبولها بالطب والهندسة، فالحياة والوطن ومتطلباتنا تستوجب العناوين الوظيفية المهمة الأخرى، كالمعلم والمدرس والعسكري وجميع الاختصاصات الاخرى، نحتاج متخصصين بالطاقة والمخازن والادارة والنفط والكهرباء والرياضيين والفنانين والرسامين وغيرها.
وبودي أن أختم حديثي (والكلام للموسوي) بهذا السؤال، وأحب أن أوجه لأصحاب نظرية المهندس والطبيب، ألا يحتاج ابنكم الطبيب إلى الكهربائي ومصلح الأدوات الكهربائية؟ ألا يحتاج إلى اختصاص أشعة ومختبر.
استبانة
قلت لأجري استبانة في جامعة بغداد، إذ قامت الإعلامية زينة في اعلام جامعة بغداد بمساعدتي باختيار العينات، كما أن لمجلس (بيت البياع الثقافي)، الذي يرأسه الحاج كمال العامري هو الآخر قد أسهم في اختيار الشخصيات التربوية للحديث عن هذا الموضوع التربوي، فوجدت أن جميع العينات والمتحدثين قد اتفقوا على أن سبب اختيار الكليات الطبية والهندسية يعود لتفكيرهم في المستقبل، كون وظائف الاختصاصات الطبية مطلوبة في مجال العمل، وصاحب الشهادة لا يجد صعوبة بالحصول على قوته، إلى جانب تباهي الوالدين أمام المجتمع بألقاب الدكتور أو المهندس.