الذباب الإلكتروني وتوزيع الشهادات
نادين خماش
هذا ليس مقالاً، ولا خاطرة. قد يكون رثاءً لحالنا كشعب أولاً، بعد أن بات تأثير الذباب الإلكتروني هو الذي يوزّع الشهادات بـ”الوطنية”، فيبرئ من يتوافق مع ثقافة الموت والدمار، ويخوّن من يقاوم بدون الاتجار بدماء شعبنا.
فالصهيونية ليست حصراً حركة سياسية. إنها صفة تنطبق على كل من يضحي بالأبرياء الفلسطينيين أيضاً. الصهيوني هو الذي يخوّن من يختلف معه ويكفّره. الصهيونية صفة تنطبق على كل من يتاجر بالقضية الفلسطينية وعلى من يتاجر بدماء أبناء غزة وبأهالي الضفة.. الصهيوني هو كل عدو للإنسانية ولكل من يزرع ثقافة الموت في نفوس شعبنا المقاوم.
للأسف، بات تأثير الذباب الإلكتروني هداماً للمرء ومحيطه. بات هداماً للقضية وقاتلاً للإنسانية. يروّج لثقافة الموت والدم ويقف عائقا أمام قضية محقّة. يحرفون الأنظار عن المجازر والإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزة، ويطلقون رصاصهم التكفيري من على أريكة مريحة في غرفة مكيفة وبرّاد ممتلئ بما لذّ وطاب. يختبئون وراء اسم مستعار وصورة وهمية ويطلقون العنان لأمراضهم النفسية تحت عنوان “القضية الفلسطينية”. وإلى قافلة المتاجرين بالقضية ينضم هؤلاء ليقودوا قطاراً يؤدي بشعبنا المثقف والصبور وصاحب الأرض والحق إلى الهلاك.
صدق من قال إنّ “قضية فلسطين محقّة وعادلة ولكنّ المدافعين عنها فاشلون”. مع التحفظ على الجزء الأخير من هذا القول. فهؤلاء ليسوا مدافعين عنها بل متاجرين بها. هم صهيونيون أكثر من الصهاينة الإسرائيليين. مدمرون لها أكثر من تدمير العدو لها. لماذا؟ لأنّ العدو معروف لكنّ هؤلاء مخفيون مختبئون يزرعون الفرقة ويخوّنون ويكفّرون ويطبقون حرفيا مع ترسمه إسرائيل من تشتيت وتفتيت بين أبناء شعب واحد.
لا تحتاج لأن تكون فلسطينياً لتستنكر جرائم إسرائيل اليومية وتتعاطف مع أهلك في غزة. يكفي أن تكون إنساناً لتقوم بالمثل وأكثر. إذا أيها “الذباب” حججك التخوينية لا تنطبق هنا. صوّب رصاصك على من ينشر الوهم ويستبيح دماء شعبنا. صوّب سهامك على من يختار الزمان والمكان للقيام بعمليّة وفق توقيت يناسب داعميه ومموليه. إن كان لا بدّ من التخوين فصوّب سهامك على أصحاب الأجندات السياسية والعسكرية من داخل البيت. أما نحن المدنيون، فدعك منّا إلا إذا كان هؤلاء من يشغّلونك ويدفعون لك ثمناً لتغريدة أو منشور.
يبدو أنّ هناك فهماً خاطئاً لما يريده المدنيون الفلسطينيون في غزة اليوم. فالغزيّون سئموا وضعهم الكارثي المأساوي وهم الذين يدفعون ثمنه أولاً وأخيراً دماءً ودماراً.
حبّ الوطن والشعور بالانتماء لا يرتبط بدعم فصيل على حساب الوطن. ولا يحقّ لأي شخص أن يوزّع شهادات الوطنية ويقذف اتهامات جاهلة وباطلة. كثيرٌ من العقلاء يرون وطنهم بعيون الحبّ والفرح، بعيون الناجحين من أفراده في فلسطين وحول العالم. فالصمود والحفاظ على الهوية الوطنية والثقافة والعلم والأخلاق هو بحد ذاته مقاومة حياتية. وأهل غزة أهلٌ للحياة وثقافتها. وحده الصهيوني ـ من أي طرف ـ كان يريد تصوير هذا الشعب المحبّ للحياة بـ”ثقافة الموت”.
شعبنا مقاوم قبل هذه “المقاومة” التي نشأت بعد 1979 (تاريخ الثورة الإيرانية) وأرادت احتكار المقاومة وتكفير أي مقاومة أخرى. منذ الانتداب الإنجليزي وما قبله، شعبنا يقاوم للحفاظ على هويته. ورغم كل الشدائد، ظلّ متمسكاً بثقافته ولغته وعاداته وتراثه وأكلاته ودبكته وأخلاقه. الأخلاق التي لا يتمتع بها هذا “الذباب الإلكتروني”.
مقاومتنا سلميّة وستبقى. حملت المقاومة السلاح حين كان السلاح خيارها الأخير: فبيد حملت البندقية وفي يد غصن الزيتون. أما اليوم وفيما أراد وتمنّى العدو الإسرائيلي حمل خصمه السلاح بيديه الاثنتين، تحقق حلمه.
ألا تعرفون أن اختزال المقاومة بالسلاح مرادٌ إسرائيلي أمام المجتمع الدولي. أليس هذا ما يريده الاحتلال؟ ألا يتمنى محو غزة من الوجود وتدميرها واحتلالها وتهجير أهلها؟ ألم يكن السلاح عذراً أرادته لتحقيق مرادها؟
بسبب هؤلاء، لم ننجح في مخاطبة الغرب للوقوف معنا. في كل مفترق تتقدم فيه القضية الفلسطينية سياسياً ودبلوماسيا، يظهر السلاح وتنتهي جولة المعركة بخسارة جديدة لقضيتنا.
أيها “الذباب الإلكتروني”، تخوينك لي ولغيري لا يؤثّر، لكنّ نشرك للجهل جريمة بحق شعبنا.
فالهجوم اللافت على الإعلاميين ـ فلسطينيين كانوا أو من جنسيّات عربيّة أخرى ـ غير مبرّر أبدا “وطنياً” إلا إذا كان القصد منه باطلاً والهدف منه باطلاً.
ألا تعرف أيها المواطن الفلسطيني أن الاعلامي ليس ناشطاً سياسياً ولا قائد كتيبة حتى تحمّلوه مسؤولية مجريات معركة لم تقررها أنت ولا أنا.
التعاطف بديهي وإنساني أكنت فلسطينياً أو آسيوياً أو أوروبياً او أميركياً أو أفريقياً. كلّ إنسان يرغب بإنهاء الحرب في أقرب وقت. لكن التهافت على الشتم والقذف والدعاء على الأبناء ما هي إلا لغة الضعيف الجاهل الذي ليس لديه ما يقوله.
أيها المتابعون على مواقع التواصل ألا تشاهدون فيديوهات الغزيين من قلب الحدث وتسمعون رأيهم؟ ألا تقرأون بعضاً من تغريداتهم التي تتكلم بلغة العقلاء إنهم لا يريدون الحرب ورافضين لما حصل؟ يبدو أنه علينا أن نحرّر العقول والقلوب وعندها نحرّر فلسطين.
ستبقى فلسطين هويتي والقدس بيتي فيما الجيش الإلكتروني سيبقى “ذباباً” هداماً لقضية محقة، وصهيونياً بتخوينه وتكفيره لكلّ مقاوم لا يحمل السلاح ولا يتاجر بدماء أبناء شعبه.