المداواةُ بالتي كانت هي الداءُ

شبكة ( ع.ع) .. لم يعد “فيسبوك” مجرد فضاء رقمي للتواصل الاجتماعي، بل تحوّل إلى منظومة إعلامية معقدة تُعيد تشكيل المفاهيم الاجتماعية والثقافية، وتعيد تعريف طرق استهلاك المعلومات، وتؤثر بعمق على إدراك الأفراد للأحداث من حولهم. فمن خلال خوارزمياته المتطورة، يتحكم في نوعية المحتوى الذي يصل إلى المستخدم، ويُعيد تشكيل أنماط التفكير عبر ما يُعرف بالفقاعات المعلوماتية، حيث يُحاط كل شخص بمحتوى يتماشى مع قناعاته، مما يؤدي إلى انغلاق فكري واستقطاب مجتمعي يصعب كسره. ورغم أنه يُتيح فرصة غير مسبوقة لنشر الأفكار والتواصل، إلا أن تأثيره النفسي أصبح محل اهتمام واسع، إذ أظهرت دراسات علم النفس الاجتماعي أن الإعجابات والتعليقات تُحفّز إفراز الدوبامين في الدماغ، مما يجعل التفاعل مع المنصة إدمانياً لدى البعض، بينما يؤدي غياب التفاعل أو التعرض لتعليقات سلبية إلى مشاعر الإحباط والقلق، وقد يُفاقم من حالات العزلة النفسية.
من جهة أخرى، فإن دوره في نشر المعلومات المضللة بات من أبرز التحديات المعاصرة. فقد بيّنت دراسات حديثة أن الأخبار الكاذبة تنتشر على “فيسبوك” بسرعة تفوق الأخبار الحقيقية، نظراً لاعتمادها على العناوين المثيرة والمحتوى العاطفي الذي يدفع المستخدمين إلى التفاعل دون تدقيق. وعلى الرغم من جهود المنصة في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لرصد الأخبار المضللة، إلا أن فعاليتها تظل محدودة، حيث تعتمد غالباً على خوارزميات لا تستطيع دائماً التمييز بين التضليل والمحتوى الحقيقي الذي يحمل نبرة عاطفية مشابهة. وتزداد خطورة الأمر عندما تصبح الأخبار المزيفة أداة للتأثير السياسي أو الاقتصادي، مما يجعل السيطرة عليها أمراً معقداً في ظل بيئة مفتوحة وسريعة التغير.
ولعل إحدى أكبر القضايا التي أثارت جدلاً حول “فيسبوك” هي مسألة الخصوصية وجمع البيانات، إذ يعتمد على تقنيات متطورة لتتبع المستخدمين حتى خارج منصته، مما يُتيح له بناء ملفات تعريفية دقيقة لكل فرد تُستخدم في الإعلانات الموجهة. ورغم محاولات تحسين سياسات الخصوصية، خاصة بعد فضيحة “كامبريدج أناليتيكا”، إلا أن طبيعة عمل المنصة تظل قائمة على استغلال البيانات كمصدر رئيسي للإيرادات، مما يضع المستخدم في مواجهة دائمة مع معادلة صعبة بين الاستفادة من خدماته المجانية وبين المخاطر المرتبطة بمشاركة بياناته الشخصية.
ومع التحولات الرقمية المتسارعة، لم يعد تأثير “فيسبوك” مقتصراً على الأفراد، بل امتد إلى الإعلام التقليدي الذي وجد نفسه أمام تحديات وجودية غير مسبوقة. فقد أصبح المنبر الأساسي لاستهلاك الأخبار لدى شريحة واسعة من المستخدمين، مما أدى إلى تراجع معدلات قراءة الصحف الورقية وانخفاض نسب مشاهدة القنوات التلفزيونية الإخبارية. لكن هذا التحول لم يكن محايداً، إذ أن طبيعة المحتوى الأكثر انتشاراً على المنصة تعتمد على الإثارة والتفاعل السريع، مما أدى إلى تراجع جودة الأخبار المُستهلكة، وخلق بيئة إعلامية تفضل العناوين الجذابة على التحليل العميق، وهو ما انعكس سلباً على مستوى الوعي العام.
ورغم التحديات التي يفرضها، فإن التعامل مع “فيسبوك” بوعي يمكن أن يقلل من آثاره السلبية، حيث يصبح من الضروري على المستخدمين تطوير مهارات التفكير النقدي، والتحقق من مصادر الأخبار، والابتعاد عن الانجراف وراء العناوين العاطفية التي تهدف إلى إثارة ردود الأفعال بدلاً من تقديم معلومات دقيقة. وفي الوقت ذاته، تتحمل الحكومات والمؤسسات الإعلامية مسؤولية وضع ضوابط قانونية تحافظ على حرية التعبير دون أن تسمح بتحوّل المنصة إلى أداة للتلاعب بالمعلومات أو انتهاك الخصوصية. فقد بدأت بعض الدول بالفعل بفرض تشريعات تُلزم المنصات الرقمية بمكافحة التضليل الإعلامي وحماية بيانات المستخدمين، لكن التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق التوازن بين الرقابة الضرورية والحرية التي تميز بيئة الإنترنت.
إن فهم طبيعة “فيسبوك” وآليات عمله يُعد خطوة أساسية للتعامل معه بوعي ومسؤولية، فهو ليس مجرد أداة ترفيهية، بل منظومة ذات تأثير واسع على الأفراد والمجتمعات. فبينما يُتيح فرصاً هائلة للتواصل والتعلم والتعبير، فإنه يحمل في طياته مخاطر تتطلب يقظة مستمرة من مستخدميه، الذين باتوا أمام مسؤولية فردية وجماعية في توجيه المحتوى الذي يستهلكونه وينشرونه. في النهاية، ليس الخطر في وجود “فيسبوك” ذاته، بل في كيفية استخدامه ومدى إدراكنا لتأثيره على وعينا وسلوكنا
اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي