كاظم الحجاج بين هولندا وقطر!!
فالح حسون الدراجي
بغداد: شبكة ع.ع .. في عيادة طبيبة العيون بمدينة سان دييغو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، التقيتُ قبل أيام بأستاذ (بروفسور) مصري، يدرِّس أدب اللغة العربية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقد جاء هذا الأستاذ المصري الى أمريكا، لمراجعة هذه العيادة الشهيرة، وإجراء فحوصات طبية لعينيه، فهو مثلي يعاني من مشاكل عويصة تهدد بصره. ولأن الانتظار طويل ومزعج هناك، فقد حاول الرجل قتل الوقت بالدردشة معي، خاصة بعد معرفته بجنسيتي العراقية، فراح يسألني عن الأوضاع في العراق، وعن تنظيم داعش، ثم سألني عن الصحافة العراقية – عندما علم أني صحفي- وعن الشعر ايضاً، لينتهي عند نبأ رحيل الشاعر العامي عبد الرحمن الأبنودي، ويستذكر علاقته بهذا الشاعر الكبير، بل، ويقرأ قصيدة عامية من شعر الأبنودي.
فكانت هذه القصيدة مفتاحاً للحديث عن الشعر العامي العربي، وعن عموم الشعر، لنعرج بعدها على قصيدة (السهل الممتنع)، تلك القصيدة التي تؤدي مهام الشعرية العامية، لكن ببدلة (فصيحة) أنيقة، فأستذكر الأستاذ عدداً من شعراء هذا اللون كنزار قباني وأحمد مطر ولميعة عباس عمارة وغيرهم. ولم أفوت الفرصة فشاركت في هذا الموضوع بذكر أسماء شعراء عراقيين يكتبون في ذات الخط الشعري الإبداعي ايضاً، مثل گزار حنتوش، وجواد الحطاب، وعدنان الصائغ، ونصيف الناصري، وغيرهم. لكني تذكرت في تلك اللحظة الشاعر الكبير كاظم الحجاج، وبعض قصائده الساخرة التي تشبه المناشير السرية في شدة اختصارها، وروعة غايتها، وارتفاع فنيتها. وبلا مقدمات، طلبت من البروفسور المصري أن يسمع هذه المقاطع الرائعة من قصيدة (أنظر بعين من نهرين)، للشاعر كاظم الحجاج، والتي أحفظها عن ظهر قلب. فرحب الرجل بل فرح جداً. فقرأت له هذه الأبيات الجريئة:
(أنا لا أصلي!
أنا أتوضأ، دون صلاةٍ، وهذي شماليْ.
أعف وأطهر ممن يصلي نهاراً، ويسرق في الليل خبز عيالي ..
أنا لا أصوم!
أنا صائم منذ ستين عامْ
أجوع وآكلُ
لكنني لا أبسمل عن لقمةٍ بالحرامْ
أنا لا أزكي!
فمن أين ليْ؟
وحتى لحافي.. قصير على أرجلي )!!
فرفع الأستاذ المصري رأسه، وقال لي:
أين يعيش هذا الشاعر؟
قلت: في وسط البركان!!
فصرخ بالطريقة الأمريكية قائلاً : واو !!
ثم سألني قائلاً: أمجنون هذا؟
قلت له: نعم؟
فضحك، وقال: ماذا قلت اسمه؟
قلت: كاظم الحجاج.. شاعر بصري جداً.
ثم أكملت: وعراقي وطني جداً. بحيث يصعب عليَّ وصف، وتصوير حجم، وطنيته، لأني بصراحة لم أجد في أمة العرب مقاساً بحجم وطنيته !
فقال: ماذا تقصد؟
قلت: أقصد أن وطنية كاظم الحجاج (نشاز) في زمننا الحالي، سواء في العراق أو في الوطن العربي، لذا ليس غريباً أن أقول إني لم أجد شخصاً بهذا الحجم الشاسع والواسع من (الوطنية) -رغم ضآلة جسم الحجاج -يصلح أن يكون مقياساً نقيسُ عليه أحجام الوطنيين.
فقاطعني قائلاً: أظنك ذكرت كلمة (ضآلة)، فهل هو ضئيل؟
قلت له: عفواً، هو ليس ضئيلاً، إنما هو نحيل فقط، إذ كيف يكون ضئيلاً من كان حجمه بحجم قصائده العظيمة؟
قال: أنت الذي قلت!!
قلت له: أنا ذكرت بأن جسمه ضئيل، وليس شخصه، فثمة فرق بين الجسد، والكيان.. وللتأكيد على ذلك، فإن الحجاج نفسه ذكر ذلك حين قال:
(لأني نحيل
لم أكلف الرب طينا ليخلقني) !!
وقال الحجاج ايضاً:( خير الرجال ما قلَّ ودل)!!
فضحك البروفسور المصري، وقال: هذا الشاعر مدهش خالص!!
ثم سألني قائلاً: أهو صديقك؟
قلت: أفخر أن الحجاج كاظم صديقي..
فقال متسائلاً: واللهِ؟!
قلت: نعم واللهِ، فصداقة (نهر) تشرف كل الجداول والأشجار والكائنات التي تروي عطشها بمائه.. وكاظم الحجاج نهر ماء عذب.
قال: وبمن مِن العراقيين تفخر أيضاً ؟
قلت: أفخر بأني عشت في زمن، عاش فيه ايضاً الجواهري، والنواب، وعبد الكريم قاسم، وعلي الوردي، وعمو بابا، وجواد سليم، وفائق حسن، ويوسف الصائغ، وجميل بشير، وداخل حسن، ومحمد سعيد الصگار، ومحمد خضير، وكاظم الحجاج، وغيرهم من قمم الزمان العراقي الكبيرة.
قال: ما هو البيت الذي تردده من شعر صديقك الحجاج؟
قلت: البيت الذي يقول فيه الحجاج:
(كنّا أربعينْ- منعوا أرجلَنا أن تنثني- فجلسنا واقفين!!
فصاح البروفسور المصري: الله الله.. أيه الروعة دي ؟
ثم قال لي: اقرأ له بعد رجاء؟
قلت: يقول الحجاج :ً
(نَفك صُرَّةَ الحزن بوجه الضريح
نبكي – يقول والدي – .. لنستريح
فالشرقُ دمعتانِ:
للحسين- يا بنيَّ- و … المسيح)
وحين انهيت قراءة هذه الأبيات، لم أسمع منه كلمة اعجاب هذه المرة.. كما لم يطلب مني أن أزيده شعراً . فأدركت أن بيتاً، أو اسماً ذكرته، قد أزعجه، فراح ظني الى اكثر من سبب!!
وبناء على هذا الظن، قررت أن أغيظه، فقلت له:
يقول الشاعر الكبير كاظم الحجاج:
(في حُلم من أحلامي، خيّرني ربّي أن أمسح عن الوجود
واحدةً مِن اثنتين: هولندا أو .. قطر؟
وحتى من دون أن أرمشَ متردداً، أبقيت هولندا؛
لأنها قدمت إلى عيون البشر ثلاث متعٍ ملوّنة لا تفنى:
رامبرانت.. فان كوخ.. وستار كاووش العراقي
ثم إنها لم ترسل إلينا، بالبريد المسجّل، أيّ إرهابيّ هولنديّ)